..لغة الضاد أحرجتني
طيلة سنوات دراستي لم يكن أحد يضاهيني، كنت متفوقا بشهادة الجميع، موهبة حباها لي الله
وكانت لدي ميولات أو يمكن القول عنها مواهب، ففي سنوات الإبتدائي حيث الخجل يعم التلاميذ، فترة نمو الأظافر وعلو الكعب في الدراسة، نمت موهبتي وبزغت في جو قل فيه النبغاء
********************
.منذ الصغر وأنا أتكلم اللغة العربية الفصحى بطلاقة، أناقش أساتذتي، بل أتفوق على بعضهم أحيانا
أما زملاء القسم فحدث ولا حرج، كل واحد منهم أو واحدة منهن يطلق علي لقبا، فأنا المتنبي، وأنا الجاحظ، ونجيب محفوظ، وغيرها من الأسماء الأدبية الرائعة
كانوا يطلقون ألقابهم ويخفون وراءها سخرية كبيرة، لأن الكل اعتاد التكلم باللهجة المحلية، يناقشون بلهجتنا المغربية، فأضحيت أحس بنفسي وحيدا بينهم، لا أحد يهتم بي ولا حتى يعتبرني موجودا داخل القسم
ومما زاد الطين بلة أحد أساتذة اللغة العربية في مستوى الإعدادي، حيث تفوقت عليه في أحد الدروس، فوجه لي كلاما جارحا لم أنساه إلى يومنا هذا
فقررت تغيير النمط وترك الفصحى للغوص في لهجتنا التي تركتها سنون عديدة، ليس كرها فيها ولكن حبا في العربية
********************
قرأت العديد من الكتب التي تتحدث عن التراث، خصوصا الشفوي منه، فوجدت مجلدات ضخمة لأدباء مغاربة وعلامة كبار جلها مكتوب باللهجة الدارجة، فاستغربت لكون هذه اللهجة حظيت بكل هذا الإهتمام
فقررت الغوص وراءها والبحث عن خفاياها، ولما لا محاولة الإبداع بها
********************
فكانت بدايتي بالزجل، لاقيت استحسانا من طرف الكل، فتحولت لخواطر عفوية، وانطلقت في كتابة مذكراتي باللهجة الدارجة، والعجيب أني وجدت سهولة ويسرا كبيرين في ذلك، فقررت بداية كتابة القصص بها
ألفت نفسي في بحر آخر، هادئ يحيل على السباحة دونما حاجة للمعلم
ووجدت تجاوبا من أبناء بلدي، وتعاطفا من بعض المشارقة الذين بذلوا جهدا كبيرا لفهم اللهجة، رغم أنهم وجدوا صعوبة في ذلك، إلا أنهم يفهمون مغزى القصص
********************
:رغم ذلك فإن البعض عاب علي هذا الأمر، وقال لي لو كنت تكتب بالعربية لوجدت قراء كثر، ونقاد يساعدونك في مشوارك الأدبي، فأرد عليهم بما نصه
في سياق حوار لأحد البرامج، أجاب الأديب: تسألونني لماذا أكتب؟ وأجيبكم بأنني أكتب لأنني أكره الأوراق البيضاء، فهي تذكرني بأكفان الموتى
هل يقنعنا هذا الجواب؟ أميل إلى القول إن قطاعاً واسعاً من متابعي هذا الحوار لم يقنعهم جواب هذا الأديب
لنقرأ معاً حواراً آخر
كان حديث العالم الفقيه يصعب فهمه، عندئذ سأله أحد مستمعيه: لماذا تقول ما لا يفهم؟ فأجابه الفقيه: وأنتَ لماذا لا تفهم ما يقال؟
(من هنا يظهر لنا متناقضين، أو منهجين بارزين: منهج (الفنّ للفن)، و منهج (الفن للجماهير
المنهج الأول أنصاره قليلون وهم النخبة، والمنهج الثاني هو المطلوب حاليا للنجاح، هذا الأخير الذي لاقيت في كتاباتي
:أختم أقصوصتي باقتباس للروائي الكبير حنا مينه
كان الفن للفن بدعة مماثلة، لماذا؟ لأنهما أنكرا الآخر، المتلقي، ودون هذا المتلقي لا يكون المؤدي. فالفنان لا يصوغ فنه لنفسه، بل للآخر، المتذوق لهذا الفن، وبعبارة أبسط: الكاتب لا يكتب لنفسه، بل للقارئ الذي يقرأ ما كتبه الكاتب
دمتم بود